(جُمعَت هذه القصة الحقيقية
في أوائل عام 1995، ثم استكملت في أوائل
حزيران 2006. كل الأسماء المذكورة في القصة مُسـتـعارة.)
في منتصف الستينيات ذهـب الشاب العربي يوسف للعمل في "موشاف" (قرية
تعاونية يهودية) بالقرب من تل أبيب، وهناك تعرف على فتاة يهودية من أصل شرقي اسمها
سارة. وما لبث يوسف وسارة أن وقعا في الحب، وأصبحت العلاقة بينهما قوية جداً إلى حد
أنه لم يعد من الممكن إخفاؤها عن بقية سكان الموشاف. وطلب المسئولون في الموشاف من
يوسف أن يتوقف عن مقابلة سارة ويقطع علاقته بها، وإلا فسوف يخسـر عمله. وحين رفض يوسف
وسارة الانصياع لأوامر الموشاف، قام الموشاف بإخبار والدي سارة في تل أبيب بالأمر.
وحين فشل والدا سارة في وضع حد لعلاقة ابنتهما بيوسف، طلبا من الموشاف فصل يوسف من
عمله وطرده من الموشاف. إلا أن يوسف وسارة كانا مصرين على الاستمرار في علاقة الحب
التي بينهما بأي ثمن ومهما كانت الظروف، وحين طـُرِد يوسف من الموشاف غادرت سارة معه.
واصطحب يوسف حبيبته سارة إلى قريته العربية، حيث عرفها على أهله وقدمها لهم على أنها
الفتاة التي يحبها ويريد أن يتزوجها. ورأت عائلة يوسف أنه طالما أن ابنهم يريد الزواج
من هذه الفتاة ويصر على ذلك، فمن الأفضل أن يتزوجها في الحال وقبل أن يبدأ الناس في
القرية بمضغ اسمه واسم عائلته بلا رحمة. وهذا ما كان بالفعل، فلم يمر يومان إلا وكانت
سارة قد اعتنقت الإسلام رسمياً وعقد قرانها على يوسف على الطريقة الإسلامية. إلا أن
عائلة سارة في تل أبيب لم تعترف أبدا بهذا الزواج الإسلامي، وأصرت على اعتبار ابنتها
فتاة يهودية غير متزوجة.
قطعت سارة علاقتها بعائلتها في تل أبيب كلياً وعاشت سعيدة في القرية. وكانت حياة سارة
مع يوسف مثالا على قصة حب تكللت بالنجاح والسعادة. وكان
هذا "الحب الغريب" بين يوسف وسارة معروفا لكل من كان يعرفهما من أهل القرية. وكما روت
لي إحدى نساء القرية، وكانت أعز صديقات سارة: "ما بتذكر ولو مرة وحدة حكيت فيها مع
سارة وما ذكرَت قصة الحب اللي بينها وبين زوجها. دايماً كانت تحكي عنها، بصراحة وبشكل
طبيعي وبدون خجل، مش مثلنا إحنا. كانت دايماً مبسوطة، والسعادة بتنقـِّط من عيونها
مثل ولد صغير جابله أبوه هدية حلوة عالعيد." ولكن ما كان "غريباً" حقاً في نظر نساء
القرية ورجالها ليس حب سارة لزوجها، وإنما حب يوسف لزوجته... فحين تعرضت سارة في إحدى
المرات لكسر في الساق وبقيت طريحة الفراش خمسة أشهر، اختفى يوسف كليا من حياة القرية
لكي يظل إلى جانب زوجته "يطبخ ويطعميها، ويشطف ويغسل، ويحملها بنفسه عالحمـّام،" كما
روت صديقة سارة بإعجاب ودهشة.
كانت سارة تتكلم العربية بطلاقة، وكانت في لبسها ومظهرها الخارجي لا تختلف إطلاقاً
عن باقي نساء القرية، بل إنها كانت أكثر حشمة وتحفظا في لبسها ومظهرها من معظم صبايا
القرية. وحين رأيت سارة لأول مرة (وكان ذلك بعد مجيئها إلى القرية بثلاث سنوات) لم
أعرف أنها يهودية أو حتى غير عربية إلا حين قال لي أحدهم من تكون. وكانت سارة معروفة
بأنها اجتماعية جدا وتحب الاختلاط بالناس؛ "كانت تحب تقعد مع النسوان تشرب قهوة وتخـرِّف
(تحكي) لثلاث وأربع وخمس ساعات." وبسعادتها المتدفقة ومرحها الشديد وروح النكتة التي
كانت تتمتع بها، لم يكن من الصعب على سارة أن تكتسب صديقات لها في كل حي من أحياء القرية.
ولكن على الرغم من كل ذلك، كان اسمها في القرية "سارة اليهودية"، مع أنهم كانوا يدعونها
حين يتحدثون إليها مباشرة "إم زياد". ولكن يقول الذين كانوا يعرفونها جيدا أنها لم
تكن أبدا تحاول أن تخفي ماضيها أو تشعر بالخجل تجاهه، ولم تكن تغضب أو تستاء إذا سمعت
أحد الناس يقول عنها "اليهودية"، بل كانت تقابل ذلك بمرحها المعهود وتحوله إلى نكتة،
قائلة: "نعم يا ابن عمي."
صحيح أن سارة قطعت علاقتها كليا مع عائلتها في تل أبيب، ولكن عائلتها لم تتقبل أبدا
حقيقة أن ابنتها تزوجت من عربي وتسكن في قرية عربية. كان والدها رجل دين معروف (رابي)
في مجتمع اليهود الشرقيين في تل أبيب، وكان إخوتها "حاخاميم" أي رجال علم في الديانة
اليهودية مسئولون عن تفسير وتطبيق "الهالاخاه" (تقابل الشريعة في الإسلام)، وهو منصب
رفيع في المجتمع اليهودي المتدين. ومنذ أن قدمت سارة إلى القرية جاء إخوتها عدة مرات
إلى القرية للتحرش بها وبزوجها؛ كانوا يأتون بسياراتهم إلى القرية في وقت متأخر من
الليل، فيلقون الحجارة على البيت، ويتلفظون بالشتائم والألفاظ النابية، ويهددون سارة
وزوجها بالقتل، ثم ينطلقون بسايارتهم عائدين إلى تل أبيب. "لو انهن زلام عن جد كان
فاتوا عالبيت وطخونا،" علقت سارة حين كانت تروي لصديقتها (التي بدورها روت لي ذلك)
على أثر إحدى تلك الاعتداءات، "بس هن جـُبَنا. بفكروا إن إذا العرب مسكوهن رايحين يوكلوهن."
ولكن سارة لم تكن تسمح لزوجها بالخروج لمواجهة أخوتها، لأنها كانت تعرف أنهم كانوا
مسلحين. وسألتها صديقتها حين روت سارة لها ذلك: "ليش ما بتروحوا للبوليس؟" فأجابت سارة:
"كنك مجنونة؟ مين مفكرة البوليس؟ يعني بتفكري إن البوليس ما بعرف؟"
في عام 1986 قررت سارة فجأة أن تذهب لزيارة والدتها في تل أبيب. وقد أوضحت سارة فيما
بعد السبب الذي دعاها إلى تلك الزيارة المفاجئة لوالدتها بعد انقطاع دام حوالي 23 عاما:
مع مرور الأعوام أصبح أخوة سارة أكثر وحشية في محاولاتهم المستمرة للتحرش بها وبزوجها،
وأخذوا يلجؤون إلى الهاتف والبريد كوسائل للمضايقة. لقد
تمكنت من تحمل تحرشات واعتداءات إخوتها عبر 23 عاماً لأنها كانت تقدر على تهدئة زوجها
ومنعه من الخروج لمجابهتهم. أما الآن فقد أصبح أولادها شبابا يتحرقون إلى مجابهة "أخوالهم"،
وليس بمقدورها أن تسيطر عليهم وتمنعهم. وغالبا ما كان أولادها الشباب يقضون الأمسيات
مع أصدقائهم في القرية ويعودون إلى البيت في وقت متأخر من الليل، فماذا سيحدث لو أنهم
قبضوا على أخوالهم وهم يرجمون البيت بالحجارة؟ ولذلك، وبسبب خوفها على حياة أولادها،
قررت أن تذهب للتحدث إلى أمها آملة أن تصغي أمها إليها وتقنع إخوتها بأن يتركوها وشأنها.
ولكن عند وصولها إلى منزل والدتها في تل أبيب لم تجد والدتها هناك وإنما وجدت أخوتها
بانتظارها، فاختطفوها وخبؤوها في مكان حتى أمها لم تكن تعرف به. وهكذا اختفت سارة،
ولم تسمع عنها أسرتها في القرية أي شيء لمدة شهرين.
بعد شهرين من اختفائها، اتصلت سارة فجأة بزوجها وطلبت منه أن يلتقي بها في عكا. وحين
التقيا في عكا، طلبت سارة من يوسف أن يطلقها لأنها لا تريد أن يدفع أولادها حياتهم
ثمنا لحب والديهم. واحتراما لرغبة سارة، وافق يوسف على الطلاق، واتفقا على أن يلتقيا
ثانية في عكا للذهاب إلى المحكمة الشرعية هناك لإتمام معاملات الطلاق. ولكن حين أتى
يوسف للقاء سارة في عكا والذهاب إلى الحكمة الشرعية، أحضر معه من القرية رجلين من أقرب
أصدقاء العائلة لعلهما ينجحان في إقناع سارة بالعدول عن الطلاق. ولكن سارة أخبرت الرجلين
أنها مصرة على قرارها بالطلاق، لأن أخوتها أصبحوا جديين للغاية في تهديداتهم، وخططهم
الخطيرة أصبحت تشمل الأولاد ولم تعد تقتصر عليها هي وزوجها فقط. وروى هذان الرجلان
فيما بعد، أن يوسف وسارة ذهبا بعد إتمام الطلاق في المحكمة إلى مطعم في عكا القديمة
فتناولا الطعام معا في جو من المحبة والهدوء، ثم افترقا كصديقين.
بعد الطلاق كاد يوسف أن يفقد عقله: "صار مثل الحية المقطوع راسها". ولكن بعد مرور حوالي
ستة أشهر على الطلاق، ظهرت سارة فجأة في القرية وطلبت من يوسف أن يعقد قرانه عليها
من جديد، لأنها لم تستطع أن تعيش بعيدا عنه وعن الأولاد. وحيـن
تزوج يوسف وسارة من جديد، جن جنون أخوة سارة في تل أبيب، فازدادت حدة تهديداتهم وعنف
اعتداءاتهم، وبدؤوا يهددون باختطاف الأولاد وإرسالهم إلى الخدمة في الجيش الإسرائيلي،
وكانت سارة تأخذ تهديداتهم على محمل الجد مقتنعة بأن أخوتها أصبحوا مستعدين لارتكاب
أي شيء. وقد روى الذين كانوا مقربين من سارة في ذلك الحين أن سارة لم تعد تلك المرأة
السعيدة المرحة والمتحدثة اللبقة كما عهدوها، وإنما تحولت إلى امرأة صامتة شاردة الذهن
وتبدو عليها علامات الإنهاك والقلق الدائم. وبعد مرور شهرين فقط على زواجها الثاني،
تركت سارة القرية واختفت. وبعد أسبوع من اختفائها، اتصلت سارة بيوسف وطلبت منه أن يلتقي
بها في عكا. التقى يوسف وسارة في عكا، فذهبا إلى المحكمة الشرعية وحصلا على الطلاق
للمرة الثانية.
بعد الطلاق الثاني، ومن أجل حرق الجسور وقطع كل خطوط الرجعة، سارع كل من يوسف وسارة
إلى الزواج، فتزوج يوسف فتاة في مقتبل العمر من القرية، بينما تزوجت سارة رجلا يهوديا
كبير السن من عكا. من الصعب معرفة المشاعر والأحاسيس الحقيقية التي تختلج في صدر يوسف
بعد زواجه الثاني، ولكننا نعرف على الأقل أن زواجه دام واستمر، ووهبه طفلين إضافيين.
وتحول يوسف إلى رجل جدي يكدح ليل نهار ويكرس جل حياته لبناء مستقبل أولاده وأولاد سارة،
وقد تمكن من إرسال ابنه البكر للدراسة في ألمانيا، ومن بناء منزلين حديثين في القرية
لإبنيه الآخرين تمهيدا لتزويجهما؛ وقد خطب أحد هذين الولدين ابنة عمه، بينما خطب الآخر
فتاة من قرية مجاورة. أما بالنسبة للبنات، فكلهن أتممن دراستهن الثانوية؛ وتزوجت البنت
الكبرى شابا عربيا من عكا القديمة وأتت لتعيش مع زوجها وابنتيها الصغيرتين بجوار والدها
في القرية، هناك حيث افتتحت كذلك لنفسها صالونا لقص وتصفيف الشعر للنساء. أما الثلاث
الأخريات من بنات يوسف وسارة فكلهن مخطوبات وفي طريقهن إلى الحياة الزوجية.
أما بالنسبة لسارة، فقد كانت حياتها الزوجية مع الرجل اليهودي من عكا "كابوسا" (كما
وصفته سارة نفسها فيما بعد)، ولم يدم ذلك الزواج إلا أقل من عامين، وبعد الطلاق انتقلت
للعيش مع والدتها في تل أبيب. ومن الواضح أن هذه كانت نقطة تحول في حياة سارة، حيث
أصبحت "متدينة ومتعصبة، وبتلبس كإنها مرة رابي". ولكن سارة استمرت في زيارة أولادها
في القرية، وفي بعض تلك الزيارات كانت تبقى لأيام عديدة ضيفة على يوسف في بيته: "كانت
مرته تولع من الغيرة" - قالت سارة لصديقتها في القرية وهي تضحك - "بتفكرني رايحة أنام
معه. بس أنا متدينة وبخاف ألله، وما بنام مع زوجي بعد ما طلقني. مش ممكن. إذا يوسف
بدخل عالغرفة من هذا الباب، أنا بطلع من هذاك."
في بداية عام 1994 قتل ابن يوسف البكر الذي كان يدرس في ألمانيا في حادث طرق مروع،
حيث دهسه قطار وهو في سيارته، وتم إحضار جثته إلى البلاد ليوارى الثرى في مقبرة العائلة
في القرية، وحسب المراسيم الإسلامية. وبالطبع جاءت سارة إلى القرية لحضور جنازة ابنها.
في وقت الجنازة نفسه بقيت سارة في البيت ولم تخرج، ولكن في صباح اليوم التالي ذهبت
لوحدها إلى ضريح ابنها في المقبرة وقرأت له من التوراة وصلت عليه حسب أصول الديانة
اليهودية. "وكيف كان رد فعل الناس على هذا التصرف؟" سألتُ
من كان حاضرا حين كانت قصة سارة تروى على مسامعي، فأجاب حاج في أواخر الأربعينات من
العمر، وهو معروف بورعه وتقواه: "ولا واحد فتح ثمه بكلمة عن الموضوع. هذا حقها. هي
إمه، ومن حقها تصلي عليه. طالما إن الشاب اندفن في مقبرة إسلامية وحسب أصول الدين الإسلامي،
أي شيء آخر ما إله أهمية."
في أحد الأيام في عام 1989، قدمت سارة لزيارة عائلتها في القرية، وحين غادرت القرية
اصطحبت ابنتها الصغرى لتبقى بعضا من الأيام معها في تل أبيب، وكان ذلك بعلم وموافقة
يوسف طبعاً. ولكن تلك الفتاة لم تعد إلى القرية بعد ذلك اليوم. لقد بقيت في تل أبيب،
وأصبحت يهودية قلبا وقالبا، وتزوجت من شاب يهودي وقعت في حبه. وحين ذهب يوسف إلى الشرطة
الإسرائيلية مطالبا بإعادة ابنته إليه، قالت الشرطة له أن الفتاه هي التي قررت بنفسها
وبمحض إرادتها أن تبقى مع أمها وأهلها في تل أبيب. إلا أن بعضا ممن تحدثت معهم بهذا
الشأن من أهل القرية قالوا أن سارة "رجعت لأصلها" وأصبحت "يهودية حقيقية" ولذلك استغلت
تعلق ابنتها بها للتأثير عليها وجعلها "يهودية مثلها". وعلى الرغم من ذلك فإن معظم
أهل القرية يصدقون سارة حين تقول بكل إصرار أنه لم يكن لها أي دور في تحول ابنتها إلى
اليهودية، وأن أخوتها أخذوا الفتاة لتعيش معهم وهددوها بالقتل عدة مرات إذا ما تركت
تل أبيب ورجعت إلى القرية. وما لبثت الشكوك في تصرفات سارة أن تبخرت وأصبحت الغالبية
العظمى من أهل القرية تصدق رواية سارة، وذلك بسبب ما حدث بعد مرور أكثر من ستة أعوام
على انتقال تلك الفتاة إلى تل أبيب.
في 27 كانون الثاني عام 1995، جاءت سارة إلى القرية لتحضر حفل خطوبة ابنها الثاني،
وحين غادرت القرية بعد يومين من الخطوبة طلبت من ابنتها المتزوجة أن تـُحضِر طفلتيها
وتأتي معها إلى تل أبيب لتشترك في حفل خطوبة أختها (للشاب اليهودي). وحيث أن ابنة سارة
الكبرى كانت تعلم كم ستكون أختها الصغرى سعيدة بقدومها، فقد كانت لديها رغبة جامحة
في تلبية طلب أمها والذهاب معها إلى تل أبيب، إلى درجة أن زوجها لم يتمكن حتى من محاولة
الرفض. وهكذا أخذت ابنة سارة طفلتيها (كانت الكبرى في الثانية من العمر والصغرى ثلاثة
أشهر فقط) وسافرت مع أمها إلى تل أبيب. في الأيام الثلاثة الأولى من مكوثها في تل أبيب،
كانت ابنة سارة الكبرى تتصل كل مساء بزوجها لتطمئنه عليها وعلى الطفلتين، ولكن في اليوم
الرابع لم تتصل، وفي اليوم الخامس اتصلت سارة بزوج ابنتها في القرية وأخبرته وهي تشهق
بالبكاء أن زوجته وابنتيه اختفين فجأة ولا أحد يعرف مكانهن. وعلى الفور سافر الرجل
إلى تل أبيب للبحث عن زوجته وابنتيه، ولكنه لم يعثر حتى على سارة نفسها، فقد تركت سارة
شقتها واختفت دون أن تترك عنوانها الجديد أو رقم هاتفها. وبالطبع تم إعلام الشرطة بالأمر،
إلا أن الإجراء الوحيد الذي قامت به الشرطة هو تفتيش بيوت أخوة سارة، حيث لم تعثر على
أي شيء "مثير للشبهات". وبعد أسبوعين اتصلت سارة بيوسف وأقسمت له بالله وبروح ابنها
المرحوم أنها لا تعرف شيئا عن ابنتها والطفلتين، وأن شغلها الشاغل هو البحث عنهن. وحين
سألها يوسف عن السبب في اختفائها قالت: "أنا متخبية من أخوتي. كانوا يلاحقوني مثل خيالي."
حتى كتابة هذه السطور في 25 آذار 1995، لم يتم العثور على ابنة سارة وطفلتيها، ووالد
الطفلتين "داير مثل المجنون." وفي الوقت الذي كنت أجمع فيه هذه القصة من الناس (من
23 شباط إلى 4 آذار 1995) كان اختفاء ابنة سارة وطفلتيها موضوعا ساخنا في القرية والحديث
عنه على كل لسان. وكان كل الذين تحدثت معهم في هذا الموضوع متأكدين من أن أخوة سارة
اختطفوا المرأة وطفلتيها، وأن الشرطة تعرف ذلك ولا تحرك ساكنا. وفي هذه الأثناء طلب
خطيب إحدى ابنتيّ سارة المتبقيتين في القرية إلغاء الخطوبة، والسبب كما أوضحه الشاب:
"يمكن ييجي يوم واليهود يخطفوا اولادي. شو قايم علي أخاطر؟" وكانت عائلة يوسف وأقاربه
في حالة استنفار دائم، لأنهم كانوا يخشون أن يقوم أخوة سارة بسرقة جثة ابن يوسف من
المقبرة.
من الممكن أن نرى بكل وضوح من خلال هذه القصة الواقعية، أنه على الرغم من أن الفلسطينيين
العرب واليهود الإسرائيليين هم مواطنون في دولة إسرائيل، إلا أنهم من حيث أساسيات الحياة
وأسس الوجود مجموعتان متناقضتان، تستثني كل منهما الأخرى، وغير مندمجتين في مجموعة
أكبر يمكن أن نسميها "الإسرائيليين"، وذلك على الرغم من ارتباط هاتين المجموعتين اقتصاديا
واعتمادهما المادي على بعضهما البعض. فاليهود في إسرائيل هم "الإسرائيليون"، أما الفلسطينيون
العرب فليسوا كذلك. واليهود الإسرائيليون (أي الموشاف، وأخوة سارة وأقاربها، والشرطة،
وكل من كان له ضلع في هذه القضية من الجانب الإسرائيلي) هم الذين يحتلون مركز السيطرة
ويملكون القوة للتهديد والمعاقبة والتحرش والاعتداء والاختطاف، والإفلات من الحساب
والعقاب، في حين أنه لم يكن بوسع الفلسطينيين العرب إلا أن يدافعوا عن أنفسهم وأطفالهم
بشكل سلبي. فيوسف وعائلته لم يذهبوا ولو مرة واحدة إلى تل أبيب للبحث عن أخوة سارة
لمعاقبتهم أو التحرش بهم أو الاعتداء عليهم... حتى أنهم لم يحاولوا جديا، ولو مرة واحدة،
إلقاء القبض على أخوة سارة حين كان هؤلاء يتسللون إلى القرية للاعتداء على يوسف وعائلته.
ووالد الطفلتين المختطفتين لا يزال "داير مثل المجنون" في القرية، فماذا بوسعه أن يفعل
غير ذلك؟
ومن الواضح كذلك أن هاتين المجموعتين ليستا مجموعتين ثقافيتين أو دينيتين أو عرقيتين،
بل هما مجموعتان قوميتان في اللب والجوهر، والموضوع المحوري للقصة هو القومية والانتماء
القومي وليس الثقافة أو الدين أو العرق. فمن حيث الثقافة، كانت سارة عربية لا تقل عروبة
عن أي شخص آخر في القرية، وإن حدث وتصرفت بأسلوب "يهودي" وليس "عربيا" كان أهل القرية
يتفهمونها ويتحملونها بصدر رحب، فثقافتها لم تكن المحك للحكم عليها مهما كانت متشابهة
أو مختلفة، و"يهوديتها" الثقافية لم تكن تشكل مشكلة لأي شخص في أي وقت من الأوقات.
ومن حيث الدين، اعتنقت سارة الإسلام، وتزوجت من مسلم، وأنجبت أبناء مسلمين، وقبلت أن
تعيش في مجتمع مسلم وتحترم عقائده وقيمه ومسلماته الإسلامية، وكان هذا في نظر أهل القرية
كافيا لكي تعتبر مسلمة وتـُعامـَل على هذا الأساس. وإذا حدث يوما ما وتصرفت كيهودية
وليس كمسلمة "دينيا" (كما حدث حين صلت على ابنها وتلت التوراة لروحه)، كان أهل القرية
يعتبرون ذلك حقا لها وشأنا خاصا بها فيتقبلونها ويحترمونها على ما هي عليه. ولذلك فمهما
كانت سارة شبيهة بالآخرين أو مختلفة عنهم من حيث الثقافة والدين، كانت تحظى بالقبول
والاحترام كعضو كامل في مجتمع القرية. ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، ظلت سارة هي "سارة
اليهودية" ولم يفارقها هذا اللقب أبدا، ولم تصبح عربية فلسطينية (أي من حيث القومية)
في أي وقت من الأوقات. لقد تم قبولها التام في مجتمع القرية كزوجة يوسف، وأم زياد،
وصديقة هذه أو تلك من نساء القرية، وامرأة من نساء القرية، ولكنها لم تصبح عربية أبدا.
لقد سمح لها بأن "تعيش كعربية" بين العرب، ولكن لم يعتبرها أحد في القرية، ولا هي اعتبرت
نفسها، "عربية" في هويتها وانتمائها، أي عضوا في مجموعة الفلسطينيين العرب (من حيث
القومية). لقد كانت سارة مواطنة إسرائيلية ككل أهل القرية، ولكنها كانت أكثر من ذلك
بكثير... كانت مواطنة إسرائيلية يهودية، عضوا في مجموعة
"اليهود الإسرائيليين" القومية التي تسيطر على الدولة وتتحكم بتركيز وتوزيع القوة فيها.
لقد استهزأت سارة بأخوتها وأهانتهم (وهم رجال دين محترمين وحراس للديانة اليهودية)،
ودعتهم "جبناء" و "ليسوا رجالا حقيقيين"، وقضت معظم حياتها هاربة منهم، ومع ذلك روى
لي أهل القرية أنه خلال حرب أكتوبر عام 1973 والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982
لم تخرج سارة من بيتها لأنها لم تكن تتحمل سخط الناس على إسرائيل واستهزائهم بجيشها
ومشاعر العداء التي كانوا يكنونها لـ "اليهود الإسرائيليين".
أما أبناء سارة وبناتها فيعتبرهم أهل القرية مسلمين وعربا ومن أبناء القرية، بكل ما
تتضمنه هذه المفاهيم من معان ومحتويات... إنهم عرب فلسطينيون ككل أهل القرية، ولم يتساءل
أحد أبدا عن هويتهم أو يشكك في انتمائهم، إلى أن "قررت" البنت الصغرى أن تنتقل للعيش
كيهودية في تل أبيب، فبدأ التساؤل والنقاش حول هويتها وانتمائها الحقيقيين. وليس من
الواضح تماما إن كان أهل القرية لا يزالون يعتبرون هذه الفتاة مسلمة (دينيا) وعربية
(ثقافيا)، ولكن ما هو واضح تماما هو أنها لم تعد "عربية فلسطينية" (قوميا) في نظر أهل
القرية، والسبب في ذلك هو أنها انتقلت من طرف إلى آخر في المعادلة القومية. فهي تخلت
عن ماضيها وبدأت "تصوغ" نفسها من جديد، وقطعت علاقاتها مع أسرتها وأهل القرية جميعا،
وذهبت للخدمة في الجيش الإسرائيلي (كما يقول البعض)، وارتبطت بشاب يهودي، وعاشت في
تل أبيب ليس كيهودية فقط بل كيهودية إسرائيلية، وهذا الفرق هو بيت القصيد. فلو أنها
لم تتخلَّ عن ماضيها، ولو أنها حافظت على علاقاتها مع أسرتها وأهل قريتها، لكان من
المحتمل أن يتم اعتبارها "عربية فلسطينية تعيش بين اليهود". ولكنها أصبحت إسرائيلية...
عضوا في مجموعة "الإسرائيليين" القومية التي تتناقض وتتنافى
مع مجموعة "الفلسطينيين". أما أختها التي كانت تعيش مع زوجها وطفلتيها في القرية ولكنها
كانت ترغب أشد الرغبة في زيارة أختها "اليهودية الإسرائيلية" في تل أبيب، فهي مثال
نادر على التناقض والصراع ما بين الدوافع الذاتية التي تميل إلى عدم التقيد بالحدود
القومية، وبين الانتماء القومي المغلق الذي يحتم عدم اجتياز الحدود من مجموعة قومية
إلى أخرى.
أما بخصوص أخوة سارة وأهلها اليهود، فلا شك أنه كان للدين والثقافة والعرق (وآراء اليهود
المسبقة عن الإسلام والعرب) دور فيما حدث، ولكن لم يكن هذا هو الأساس فيما حدث. فليس
أحد المؤمنين بالديانة اليهودية أو أحد أعضاء الجماعة الدينية اليهودية هو ما لم يكن
أخوة سارة يريدون أن يخسروه بأي شكل من الأشكال، بل ما لم يكن أخوة سارة يريدون أن
يخسروه هو التميز الاستعلائي التفضيلي لليهود الإسرائيليين على
العرب الفلسطينيين، وهذا هو السبب في أن أخوة سارة ومجتمعها اليهودي الإسرائيلي كانوا
طوال الوقت معنيين بأبناء سارة وليس بسارة نفسها، وهو كذلك السبب في أنهم كانوا دائما
يتحدثون عن إرسال أبناء سارة وبناتها إلى الجيش الإسرائيلي الذي هو النقيض المطلق للكيان
القومي الفلسطيني. وما يبرهن على ذلك بشكل أكثر وضوحا، هو أن أخوة سارة لم يقوموا بما
قاموا به بمفردهم أو بمساعدة أمثالهم من اليهود المتدينين فقط وإنما بمشاركة أهل الموشاف
والشرطة الإسرائيلية، وأنهم كانوا يحظون بتأييد وتعاطف المجتمع اليهودي الإسرائيلي
بشكل عام.
وهكذا يمكننا اعتبار قصة "سارة اليهودية" برهانا حيا وواقعيا على أن الفلسطينيين العرب
في إسرائيل هم مواطنون في إسرائيل ولكنهم ليسوا، ولا يمكن أن يكونوا، "إسرائيليين"
بالمعنى القومي، وليس من الصواب ولا من الموضوعية اعتبارهم جزءاً من "المجتمع الإسرائيلي"
بل يجب اعتبارهم جزءاً من "المجتمع في إسرائيل". فالإسرائيليون هم اليهود في إسرائيل
ولا شيء غير ذلك، والمجتمع الإسرائيلي هو المجتمع الذي أقيمت دولة إسرائيل من أجله
ولخدمته، والذي يسيطر على الدولة ويتحكم بشكلها وماهيتها ومصيرها، وما للفلسطينيين
العرب في ذلك ناقة ولا جمل.
خاتمة
شاءت لي الصدف أن ألتقي بيوسف قبل حوالي الشهرين (حزيران 2006)،
وكان لنا حديث طويل. وكان يوسف صريحا، بل مندفعا، في رواية قصته مع سارة، ولم يظهر
عليه الانزعاج والحزن إلا حين بدأ بالحديث عن مقتل ابنه البكر في ألمانيا. والمهم هنا
هو أن ما رواه لي يوسف مطابق لما رويته في هذه الصفحات، اللهم إلا بعض التفاصيل العينية
الدقيقة التي لا يعرفها إلا هو نفسه (مثلا، أن أخوة سارة تسللوا إلى البيت مرتين، مستغلين
فرصة غياب يوسف في العمل خارج القرية، وحاولوا إقناع سارة بأن تسمح لهم بأخذ الأولاد
معهم إلى تل أبيب، ولكن سارة في المرتين نادت على شقيق يوسف فقام بطردهم من القرية).
وقد أخبرني يوسف بأن ابنته التي كانت قد اختفت مع طفلتيها في تل أبيب، تمكنت من الإفلات
من أخوالها وعادت إلى القرية، وهي لا تزال فيها حتى الآن. أما سارة فتوفيت بالسرطان
في أحد المستشفيات في تل أبيب عام 1997، ولم يذهب يوسف أو أي واحد من أبنائه أو بناته
لحضور الجنازة على الرغم من أنهم حزنوا جميعا لموتها على حد تعبيره، ولكن في أيامها
الأخيرة ذهب يوسف لزيارتها في المستشفى بناءاً على رغبتها، وحين سألته عن ذلك اللقاء
كان جوابه الوحيد: "أنا متأكد إنها ماتت من الغم والقهر، وإخوتها ما تعرفوا عليها ولا
حتى زاروها ولو مرة وحدة قبل ما تموت". وأما البنت الصغرى التي تحولت إلى يهودية إسرائيلية،
فلا يعرف والدها عنها شيئا ولا تربطه بها أية علاقة. ويوسف نفسه لا يزال يكدح ويشقى
في العمل كعادته على الرغم من أنه تجاوز الستين، وهو الآن رجل شديد الورع والتقوى ولا
يقطع فرضا مهما كانت الظروف، وهو فخور بنفسه وحياته وما أنجزه لأولاده، ويبدو ذلك عليه
بكل وضوح. ولكن أهم ما في الأمر هو أن يوسف انطلق في حديث مستفيض عن مقتل ابنه زياد
في ألمانيا، محاولا أن يقنعني بما هو مقتنع به دون ذرة من الشك، وهو أن الحادثة التي
راح ضحيتها ابنه البكر لم تكن عرضية وإنما مدبرة من قبل "الجماعة هون!" ووصف
الحادثة باختصار هو أنه كان لزياد صديقة ألمانية تـَعرَّف عليها في الجامعة، فطلبت
منه أن يرافقها في زيارة لبيت والديها في قرية صغيرة نائية، وفي صباح اليوم التالي
طلبت منه أن يأخذها في جولة بالسيارة في السهول التي حول القرية، ومع أن زياد حاول
إقناعها بأنه من الأفضل أن يبقيا في البيت مع والديها، إلا أنها ألحت عليه بشكل غريب،
فانطلقا في تلك الجولة بالسيارة، وكان زياد هو الذي يقود السيارة وهي بجانبه. وحين
وصلا إلى سكة القطار السريع خارج القرية، طلبت منه أن يتوقف لمشاهدة المنظر. وفجأة
سمعا صفير القطار السريع قادما باتجاههما، فحاول زياد أن يشغل محرك السيارة ولكنه لم
يفلح. وفكت الفتاة حزام الأمان وخرجت من السيارة، أما زياد فحاول فك حزام الأمان ولكن
الحزام كان عالقا. وكانت الفتاة واقفة على بعد أمتار تنظر إليه ولم تحاول أن تساعده.
وكان القطار يقترب بسرعة البرق، وزياد يحاول بكل ما استطاع من قوة أن يفك حزام الأمن
ليقفز من السيارة. وجاء القطار، وسحق السيارة وزياد فيها. وردد يوسف التساؤلات التي
كانت تتردد كثيرا على لسان أصدقاء زياد من العرب والألمان: هل من الممكن أن يحدث كل
هذا بمحض الصدفة؟ لقد قامت إحدى صديقات زياد في ألمانيا، وكانت تدرس المحاماة في نفس
الجامعة، بالإطلاع على محضر الشرطة عن الحادث، والنتيجة التي توصلت إليها هي أن المحضر
يحتوي على ما يكفي لتقديم القضية إلى المحكمة والمطالبة بالتحقيق مع تلك الفتاة، ولكن
القضية ستكلف مبالغ طائلة، والنتيجة غير مضمونة "لأن الشرطة الألمانية تتخفى على جهة
مجهولة". ولكي يقنعني يوسف بما هو مقتنع به، روى لي أن تلك الفتاة الألمانية جاءت إلى
البلاد عدة مرات بعد وفاة زياد، وكانت في كل مرة تأتي لزيارتهم وتسرف في التودد إلى
يوسف وأولاده، وهي تتحدث العبرية بطلاقة، "وبتعرف البلاد قرنة قرنة، من شمالها لجنوبها".
ولكن يوسف أنهى حديثه بقوله: "الله يرحمه ويطيب ثراه، والله لا يسامح اللي كان السبب
في موته. أنا متأكد إنهم اغتالوه اغتيال، ومش مجرد حادث طرق، واللي معني باغتياله معروف.
بس الولد انتقل لجوار ربه، وما في شي برجعلنا اياه." وهكذا يبقى مقتل ابن يوسف العربي
وسارة اليهودية محفوفا بالغموض، لكن دلالات اقتناع يوسف المطلق بأنه اغتيال متعمد هي
في غاية الوضوح.